حقيقة مسلة وقوانين حمورابي
د. كاظم شمهود
يعتبر الملك حمورابي من اهم منظمي ومنظري الحكم والسياسة الذي عرفهم العالم القديم. ومن الاوائل الذين اوجدوا الشرائع والقوانين. وكان يتصف بالحكمة والعدل والدهاء والسياسة. وقد انشأ امبراطورية حوالي سنة 1754 عاصمتها بابل, والتي امتدت من بلاد فارس الى شواطئ البحر المتوسط. وكانت اقوى امبراطورية عرفها التاريخ في ذلك الوقت.
وقد عثر على مسلة حمورابي سنة 1909 في مدينة سوسة في مقاطعة خوزستان جنوب ايران من قبل بعثة تنقيبية اجنبية ( يقال انها فرنسية ) يشرف عليها عالم الآثار المصرية جوستافو جيكويرGustavo Jequier السويسري الاصل. وقد عثر عليها وهي مكسرة الى ثلاثة قطع ثم اعيد ترميمها. وكانت المسلة قد نقلت الى عيلام من قبل احد ملوكها وهو - شتروك ناخنتي - الذي اجتاح بابل وسيطر عليها خلال الالف الثاني قبل الميلاد. وهي الآن محفوظة في متحف اللوفر في باريس. وكانت المسلة في العصر البابلي منصوبة في احد ساحات بابل ليطلع الناس على قوانينها مباشرة حتى تكون حجة عليهم.
المسلة مصنوعة من حجر البازلت على شكل اسطوانة وترتفع 8 اقدام 2,5 متر وتنقسم الى قسمين. القسم الاعلى وهو منحوت بارز, يرتفع 65 سم والقسم الاسفل منها قد دونت عليه 282 مادة قانونية. حيث تعتبر من اقدم الشرائع المكتوبة في التاريخ البشري... ونحن سنتناول الحديث عن هذه المسلة من بابين الاول ما يتعلق في النحت التشكيلي الذي يعطي صورة واضحة للمعتقدات البابلية والباب الثاني هو المصادر التي اعتمد عليها حمورابي في سن قوانينة .
النحت البارز
يذكر بعض المؤرخين بان النقش النحتي الموجود في اعلى المسلة يعتبر من اقدم المنحوتات البارزة والتي شيدت من قبل امير كنعاني من بلاد وادي الرافدين . والمنحوت الذي نراه في الاعلى من المسلة يمثل اله الشمس -( شاماش او شمش )- منبع القوانين جالسا على عرشه يملي القوانين على حمورابي الماثل امامه . والفنان البابلي الذي نقش هذه المنحوتة كان قد عملها على غرار منحوتة سومرية قديمة, وهي لوحة - اورنامو - الملك السومري الذي نراه ماثلا امام اله القمر - نانار - حيث يشاهد الملك يسكب السائل المقدس امام اله القمر- و تعود هذه المنحوتة الى سنة 2050 . ق.م. بمعنى قبل ظهور الملك حمورابي بعدة قرون ... و هذه اللوحة موجودة الآن في متحف جامعة فيلادلفيا في الولايات المتحدة.... ؟. ويمكن الاطلاع على تفاصيل هذا الموضوع من خلال كتاب - فنون الشرق الاوسط القديم - للاستاذ الدكتور نعمت اسماعيل علام -
وعندما نقارن وضعية حركة جلوس اله الشمس مع وضعية جلوس اله القمر نجدها متشابهه ومتطابقة وتكاد ان تكون مستنسخة. وحتى حركة حمورابي تتشابة مع حركة الملك السومري - اورنامو - خاصة في القبعة او العمامة. وهذه اشارة واضحة ودليل قاطع بان الفنانين البابليين كانوا يتبعون التقاليد السومرية الموروثة في معالجاتهم التشكيلية والمتبعة في تسجيل المناظر التذكارية الدينية والحربية وغيرها. واستمرت هذه التقاليد حتى وصلت الى الفنون الاسلامية. حيث نرى ان الفنان المسلم يتبع في رسمه الطرق الموروثة في تزويق المخطوطات العلمية والادبية. والفرق بينه وبين الفنان الاخر يتمحور في عملية الاتقان والدقة. لهذا نجد ان المدرسة الاسلامية في الفن قد غطت كل مساحة الامبراطورية الاسلامية على اختلاف قومياتها ولغاتها وتقاليدها ....
وفي المسلة البابلية يشاهد حمورابي في وضعية جانبية يتطلع الى ناحية اليمين رافعا يده اليمنى للتعبد والطاعة واستلام القوانين, مرتديا عباءة تغطي جسمه ما عدا يده اليمنى وتنزل من الابط الايمن حتى تمس اطرافها الارض. كما يشاهد قلادة تطوق عنقه واسوار في يده اليمنى..../ وقد استمر في تراثنا العربي التزين بالقلائد والاسوار . ويذكر لنا التاريخ بان المتوكل الخليفة العباسي كان له طلعتين في اليوم في كل مرة يرتدي من الحلي ما لا رأته عين او سمعته اذن. حيث ترصع عمامته بانواع الحلي وعنقه بقلائد الذهب والاحجار الكريمة ويديه بخواتم نادرة الوجود والجمال....؟
اما قبعة حموراي فهي تظهر اصغر من قبعة او عمامة الملك السومري جوديا ولكنها تشبه قبعة - اورنامو - كما بينا ذلك سابقا. واما اله الشمس فهو جالس على كرسي العرش ناظرا الى الملك وفي يده اليمنى صولجان رمز السلطة والقوة والقوانين (والصولجان عصا اعتبرت دائما كعلامة على السلطة.. ويستعملها القضاة والزعماء والعسكريين والكهنة.. وقد عبرت الى اوربا واستخدمها اليونان ثم انتشرت هناك وظهرت على قمتها حلية معدنية.. ومنها الصليب, ولازالت تستخدم لحد هذا اليوم ...) ويظهر على راسه قبعة ذات طيات وتتدلى من ذقنه لحية كثيفة تقليدية نراها تتكرر في كثير من المنحوتات السومرية. اما العباءه فهي تختلف في شكلها عن عباءة حمورابي حيث تظهر على شكل طيات. كما نرى خلفة خطوط اشعة الشمس .
نحن امام صناعة نحت بارز واقعي الاسلوب والتقنية والتقاليد والذي هو امتداد لصناعة الاختام الاسطونية التي احرزت تقدما كبيرا في عهد الاسرات السومرية الاولى الى درجة عالية من الازدهار خاصة في عهد الاكديين. والذي اعتبر العصر الذهبي في تاريخ الفنون في بلاد الرافدين. واما من ناحية المواضيع فنرى فيها تتكرر الاساطير الخيالية والحكايات الشعبية مثل كلكامش يصارع الاسود وشخصيات الالهه وقصة الراعي - ايتانا - ETANA - وهي قصة طريفة تشبه قصة كلكامش الى حد ما. فيذكر ان غنمه اصيبت بالعقم فصعد الى السماء على ظهر نسر باحثا عن سر الحياة ' وكأنه ذهب ليسأل الالهه عن سر العقم الذي اصاب غنمه . وقد جسدت هذه الاسطورة في منحوتة بارزة وصلت الينا كاملة وهي الآن موجودة في متحف الدولة في برلين...؟؟
قوانين حمورابي
ذكرنا في مقامة سابقة بان ارض الرافدين كانت مهبط الانبياء والمصلحين والرسالات السماوية وان نوح -ع- ظهر في بلاد الرافدين في الالف الثالث قبل الميلاد وعاش 950 سنة مع قومه يبلغهم رسالات ربه , كما سار ابناءه الثلاثة من بعده على نفس الخط.. وكانت اعمار الناس في ذلك الوقت تقاس بمئىات السنين... ثم جاء من بعدهم ابراهيم - ع- وظهر في مدينة اور في قرية- كوثر - وكان يحمل معه الصحف التي تحمل القوانين الالهية . وكان ظهوره في حدود 2000 قبل الميلاد. ويعني ذلك انه ظهر قبل الملك حمورابي بحوالي 250 سنة او 300 سنة تقريبا عند بعض المؤرخين ..
يذكر المفكر والباحث الكبير السيد سامي البدري ( ريئس قسم علم الاديان المقارن في المعهد الاسلامي في بريطانيا. والذي يشرف على مجلة -القرآن وعلم الآثار- والتي تهتم باللغات القديمة مثل السومرية. وقد استطاع من قراءة بعض النصوص السومرية وحل رموزها.. والسيد البدري كان معروفا بمحاضراته القيمة التي كان يلقيها في كاليري الكوفة في لندن ايام زمان . والتي تدور معظمها حول علم الآثار...) يذكر البدري (ان حمورابي جاء بعد النبي ابراهيم ب 300 سنة وان تسمية حمورابي تعني خليل الرب ( وليس اله ) ... وما شريعة حمورابي الا نسخة متصرف بها عن صحف ابراهيم -ع- ....)
وكانت بلاد الهلال الخصيب تعج بالانبياء والرسل ولم تجد قرية الا وفيها نذير. وذكر القرآن الكريم قصة ( اصحاب القرية ) وهي -انطاكية - حيث بعث الله تعالى اليها ثلاثة رسل في نفس الوقت.. كما ان عيسى - ع- عاصر يحيى وزكريا - ع- وكانوا يبلغون رسالة الله وشرائعة في ارض فلسطين... ويذكر ان هناك 24 الف نبي ورسول بعثهم الله الى الناس كافة منتشرين في كل بقاع الارض ولم تخلو قرية الا وفيها نبي او رسول منذ آدم الى ظهور النبي محمد - ص- ....
اذن ان هذه البيئات التي تتزاحم وتعج بالانبياء والرسل والكتب السماوية والقوانين والشرائع القديمة هي كانت القاعدة الاساسية والمنابع الاصلية التي صيغت وصنعت منها قوانين حمورابي...
وكانت هذه القوانين قد شملت جميع نواحي الحياة الاجتماعية من حقوق وواجبات من معاملات وعبادات والتي تعتبر من اقدم الشرائع المكتوبة في التاريخ البشري...
وكانت عقائد اهل الرافدين الايمان بالالهه. وكان غالبيتهم ينكر فكرة الخلود كما اجازوا فناء الالهه ( كل من عليها فان ).. وهو عكس مانراه في عقائد الفراعنة الذين يؤمنون بفكرة الخلود وبنوا على اساس ذلك الاهرامات المحصنة... لهذا نجد في ملحمة كلكامش انه يذهب في رحلة طويلة للبحث عن سر الخلود فلم يجده ثم نجد ذلك واضحا في اسطورة الراعي - ايتانا - وكانت عقائدهم تدور حول تمجيد آلهة - الشمس - شمش - والقمر - نانار - والارض - بعل - وتحدثت الاساطير البابلية عن الطوفان فتزعم ان المعبود -شمش- صنع الفلك واعتصم به فنجا ومن ركب معه..... كما تذكر احد الروايات بان الملك نمرود دخلت في انفه ذبابه فقتلته ولم ينجيه احد سوى كان من الآلهه او الاطباء الخاصين به. وهي عبرة واشارة الى الفناء...
وكانت قوانين حمورابي تطبق معضمها على النحو الصحيح وكانت بعضها صارمة وقاسية ( بالنسبة لنا ) منها - (..... اذا قبض على امرأة مضطجعة مع سيد فللزوج حق ربطهما والقاهما في الماء... اذا ضرب ولد والده فعليهم ان يقطعوا يده.. اذا كسر سيد عظم سيد آخر فعليهم ان يكسروا عظمه.. اذا استأجر احدهم ثورا واماته بسبب الاهمال او الضرب, يعوض صاحب الثور بثور مثله....) وهكذا..
الموروث الاجتماعي
قرأت كتاب - الاصنام - لابن الكلبي - يسرد فيه عن تاريخ تلك الاصنام او التماثيل المعبودة في الجزيرة العربية و الهلال الخصيب, وهو موضوع جميل وشيق، وكان يتحدث عن ابراهيم وشرائعه والاحتدام القائم بينه وبين الوثنية التي كانت منتشرة في الجزيرة العربية , ثم جاءت قبيلة خزاعة بزعامة عمرو بن لحي وطرت قبيلة جرهم الحنفية من مكة وسيطرت عليها.. فغيرت مفهوم وثقافة الدين من التوحيد الى تعدد الآلهه.
في الضفة الاخرى كان اهل بابل لم يستطيعوا التحرر من الارث الوثني ولم يستطيعوا ان يجازفوا بترك ما هو مألوف لديهم ويقبلوا على دين ابراهيم.. وبالتالي فقد حولوا شرائع وحوادث انبيائهم الى اساطير وقصص وخرافات ونسبوها الى الآلهه. فنقلوا قصة الطوفان للنبي نوح - ع- والبسوها ثوبا وثنيا. فزعموا ان اله الشمس صنع الفلك واعتصم به فنجى هو ومن ركب معه.. ولم تخلو هذه التقلبات والتشويهات والعطاءات من مصالح سياسية وسلطوية تخدم الملوك وكذلك دينية تصب في صالح الكهنة الذي يشرفون على المعابد والتي تدر عليهم الاموال الطائلة.. لهذا فكانت هناك صراعات سياسية ودينية دامية لا تقل ضراوة وبشاعة و دموية عن عصرنا الحاضر..
نقطة مضيئة
في نظرة تأملية الى قبعة حمورابي ومقارنتها بقبعة الملك السومري اورنامو ومقارنة الاثنين بعمامة المفكر الاسلامي الكبير المرحوم الدكتور احمد الوائلي يجد هناك تشابه وتطابق في الشكل وكأنها مستنسخة من تلك التقاليد السومرية والبابلية... حيث تمتاز بظهور قمة الرأس قليلا وطوق خفيف يلف حول الرأس. وكأن الوائلي جاء من سومر بزيهم وفكر الخليل وحل بيننا.. وهذا اللون من الارتباط بالماضي بالام او الاصل' يولد الهوية التي يجب ان نعتز بها دائما..
( سلام على هضبات العراق وشطيه والمنحنى -
على النخيل ذي السعفات الطوال على سيد الشجر المقتنى) الجواهري
0 comments:
إرسال تعليق