أضواء على طبيعة الذوق الفني والتذوق الجمالي |
يعدّ الانفعاليون " الذوق" فيصلاً في تقييم الأعمال الابداعية ورائزاً يسمو على كل المعايير النقدية لأنه خلاصة العوامل الفطرية والمكتسبة التي يقوم عليها العمل الابداعي. ففيه نستطيع تقدير الجمال والاستمتاع به ومحاكاته بقدر ما نستطيع في أعمالنا وأقوالنا وأفكارنا..
والذوق عملية مركبة من العقل والاحساس إلا أن العاطفة هي أهم عناصره لأنها العامل الذي تنطلق منه الأحكام وهو مظهر لصفاء الذهن وقوة القريحة حيث تظهر بوادره مع مراحل الحياة الأولى. ولأن الذوق ملكة فطرية فهو يستجيب للتربية والتثقيف. أنواع الذوق : نستطيع تقسيم الذوق إلى نوعين : • ذوق سلبي: يدرك صاحبه الجمال ويتذوقه دون القدرة على التفسير أو التعليل حيث يستطيع صاحبه أن يستمتع بالجمال ويغذي به عواطفه ويشبع حاجاته النفسية والعاطفية والفكرية فهو بحكم المتلقي الذي تتحقق فيه غايات الفنون وأهدافها. • ذوق ايجابي: يستطيع صاحبه إضافة لما سبق أن يميز الجمال عن أضداده ويشير إلى مواطنه معللاً أحكامه ومقدّماً المقترحات التي تطور العمل الإبداعي وتدفعه نحو الأمثل. وإذا كانت معايير الجمال لا تخضع لقوانين أو ضوابط ولا يمكن تفسيرها أو تعليلها لأن الجمال نتاج عبقرية ساحرة وعوامل نفسية معقدة لا يمكن تبسيطها أو تعليلها ويقاس بما يتركه من أثر مريح في النفوس ومن سحر وإعجاب في العقول حتى أطلق عليه السحر الحلال, يقول طه حسين : " هناك ذوقان لكل واحد منّا حظٌ منهما يختلف قوة وضعفاً ويتفاوت سعة وضيقاً باختلاف ما للشخصية من القوة أو الضعف. وهناك ذوق فني عام يشترك فيه أبناء الجيل الواحد في البيئة الواحدة وفي البلد الواحد لأنهم يتأثرون بظروف مشتركة تطبعهم جميعاً بطابع عام يجمعهم ويؤلف بينهم وهذا الذوق يتسع ويضيق ويقوى ويضعف, فلأهل الأزهر ذوق خاص يكادون يستبدون به وللجامعيين ذوق خاص أو قل أذواق مختلفة". العوامل المؤثرة في الذوق: 1. البيئة: وهي مجموعة العوامل الطبيعية والاجتماعية التي تميز حيّزاً جغرافياً عن غيره, فأبناء البادية غير أبناء المدينة وأبناء الساحل غير أبناء البيئة الجبلية, فلا بدّ للطبيعة أن تترك بصماتها على أذواقنا وطباعنا ونفوسنا, فالبادية بخشونتها واضطرابها وبساطتها وحريتها التي لا تعرف الحدود, هي غيرها من المدن حيث الترف والتصنّع وحيث تنشأ الأحكام من خلال فهم عميق لطبائع العلاقات الاجتماعية ومنعكساتها.. ولعل أحسن مثال على ذلك القصة التي تنسب إلى علي بن الجهم في مديحه المتوكل بقوله: أنت كالدلو لا عدمناك دلواً , من كثير العطايا قليل الذنوب, أنت كالكلب في حفاظك الود, وكالتيس في قراع الخطوب.., فلّما هجم عليه بعض الحضور منعهم الخليفة من الوصول إليه وطلب منه الإقامة بينهم ولم يمض زمن طويل حتى أتحفنا بأرقّ ما كتب في الشعر العربي حين قال: عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن من حيث أدري حيث أدري ولا أدري أعد لي الشوق القديم ولم أكن سلوت ولكن زدن جمراً على جمر وكذلك ما نميزه في شعر المهجر وشعر الأرض المحتلة عن شعر البلاد الآمنة. 2. الزمان: ونقصد به العوامل المستحدثة الي تطرأ على حياة شعب من الشعوب أو فرد من الأفراد فالذوق حلقة تاريخية تعكس الجهود الثقافية والحضارية لعصر من العصور وماولاه من عصور متتابعة فقد تحولت مفاهيم الأدب من الجاهلية إلى الاسلام وإلى العصور الأموية والعباسية والعصر الحديث. وقد رأينا كيف سخر أبو نواس من الوقوف على الأطلال بعد أن كان سمة من سمات الشعر الجاهلي وكذلك التحولات الشاملة التي طرأت على الأدب في العصر الحديث. 3. الجنس: وهو عامل مركب من العاملين السابقين فهو سمة تميز شعباً عاش في زمن ما على بقعة معينة تحت تأثير عوامل مشتركة وتميز شعباً عن غيره ولقد وجدنا هذا التأثير واضحاً في أدب بشار بن برد وابن المقفع وتأثرهما بالأدب الفارسي وكذلك الشعر النسائي كشعر الخنساء ونازك الملائكة عن شعر نزار قباني رغم محاولات الأخير التعبير عن خصوصية المرأة إلا أنه ل ينف خصوصية الجنس التي تميّز له أدب تلك النسوة.. 4. التربية: وهي جملة المبادئ والقيم التي تؤمن بها مجموعة من البشر وتتخذها منهجاً تسير عليه وتلتزم بتنفيذه وهي حصيلة جهود مشتركة تتضافر فيها جهود الأهل والمدارس والمؤسسات الإعلامية والتعليمية وهي مبرر لتشابه الأذواق في جيل من الأجيال فالأذن التي نمت وترعرت في جيل العمالقة لن تستسيغ أبداً ما تألفه الأذن في عصر " الفيديو كليب " عصر التربية الرافدة عبر المحطات الفضائية بما تحمله من تيارات هدّامة لا تستهدف أذواقنا فحسب بل وتستهدف قيمنا العربية الأصيلة.. ونغتم الفرصة هنا لنوجّه دعوة لكل القائمين على العملية التربوية ولكل المؤسسات ذات العلاقة بهذه العملية الخطيرة أن يأخذوا دورهم في مواجهة كل التحديات التي تحملها الرياح القادمة من الغرب وما تحويه من سموم وأوبئة. لأن أمة لا ترتقي بأذواق أبنائها لا يمكن لها أن تشكّل زاداً حضارياً تورثه للأجيال القادمة.. 5. الفروق الفردية: وهي من أهم العوامل المؤثرة في الذوق والمزاج ولأن أمزجة البشر خاضعة للتغيرات الكيميائية التي تصيب دماغ الانسان فإنها تختلف بين انسان وآخر فالمتشائم غير المتفائل وأذواق وأحكام هذه المجموعة تختلف عن تلك فالفارق كبير بين قول ابن الرومي: لما تؤذن الدنيا به من حروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد إذا أبصر الدنيا استهل كأنه بما سوف يلقى من أذاها مهدد وقول البحتري: أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً من الحسن حتى كاد أن يتكلما ورقّ نسيم الريح حتى حسبته يجيء بأنفاس الأحبة نعما إن الذوق هبة من الله تنمو وتتطور بالصقل والتهذيب وأهم الوسائل لهذا التهذيب هو النقد, يقول ابن خلدون عن ملكة الذوق البلاغي "فإذا مااتصلت مقاماته –أي المتكلم بلسان العرب- بمخالطة كلام العرب حصلت له ملكة نظم الكلام على ذلك الوجه وسهل عليه أمر التركيب حتى يكاد ينمو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب. فإن الملكات إذا استقرّت ورسخت في محالها ظهرت كأنها طبيعية وإنما تحصل تلك الملكة في شيء من الممارسة والاعتبار والتكرار". ويشير علماء النفس إلى أن تربية الذوق تتم في نواح ثلاث: الوجدان والإدراك والنزوع وذلك بمباشرة الفنون الجميلة الراقية كتكوين مقاييس صادقة للجمال ومعرفة أسبابه وتحليلها والتدرب على تقليده. وليس أجمل من أن نختم هذا المقال بما أورده ابن سلام في مقدمة كتابه " طبقات الشعر" بقوله: " وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم, منها ما تثقفه العين والأذن واليد واللسان, فاللؤلؤ والياقوت لا يعرف بصفة أو وزن دون المعاينة وكذلك ما تشترك به جاريتان بالبياض الناصع ونقاء الثغر وجمال الأنف والعين وطول الشعر وظرف اللسان, فتباع احداهن بمائة دينار والأخرى بعشرة أضعاف الأولى بشيء لا يمكن اخضاعه لأي معيار من هذه المعايير.." وأخيراً أليس من حق هذا الجيل علينا كآباء ومربين أفراد ومؤسسات أن نحمل على عاتقنا مسؤولية تربية هذا الجيل والارتقاء بذوقه إلى مستوى يليق بنا كأمة كانت وما تزال مشعل الهداية الانسانية في زمن طغت فيه المادية حتى عميت معها الأبصار والبصائر. وعلينا أن نسقط مفهوم الذوق على كلّ حيثيات حياتنا وتعاملنا من الآخرين وهي دعوة لكل أم وأب لكل معلم وكل مربّ, لكل مؤسسة إعلامية وتعليمية أن نجعل شعارنا دائماً: " بالذوق نرتقي وبالذوق وحده تتحقق انسانيتنا ويتحدد موقعنا في خارطة الحضارة العالمية." |
0 comments:
إرسال تعليق