الثلاثاء، 21 أكتوبر 2014

مدخل للفن العراقي المعاصر في العراق





مدخل للفن العراقي المعاصر في العراق

المقدمة 
تثير الحركة التشكيلية المعاصرة في العراق، أسئلة متعددة تخص بنية الفن والمراحل التي مرت بها هذه الحركة، منذ بداسة هذا القرن، وحتى سنواته الأخيرة .. فالابداع التشكيلي استطاع ان يلفت النظر، عربيا في الاقل، ويؤشر لمساراته وتقاليد خاصة، الامر الذي دفع عددا من المهتمين بالثقافة الى نشر تحليلات وافكار ودراسات تبحث في نشوء الاتجاهات والاساليب الفنية وتطورها.
والحركة التشكيلية المعاصرة في العراق، بالرغم من هذا الازدهار، في الاتجاهات والتجارب، بحاجة الى البحث، المنهجي، على صعيد الدراسات العليا،، وعلى صعيد الدراسات النقدية الاخرى، لاستكمال الحوار،والعلاقة الجدلية بين النظرية والعملية.

مدخل عام
لا نجد في نقدنا المعاصر تحديدات (نقدية) تخص الاساليب بالمستوى الذي نراه في الكتابات التاريخية والادبية والانطباعية. فالنقد لدينا كان يرسم الشكل المنجز، من الخارج، ولم يتوقف، كما حصل في الشعر مثلا، عند قضايا تدخل في صمي البنية التشكيلية، كظاهرة مستقلة، أو باعتبار الفن، ليس خطابا عاما، وانما هو احد اشكال التقاليد التقنية ان كانت موروثة او وليدة الحوارات الحضارية منذ قرن في الاقل.
وهذه واحدة من المشاكل التي يواجهها النقد ذاته، في العراق اوفي الوطن العربي عامة. والسبب يرتبط عميقا، بالبعد الحضاري. النقد لا يزال يفهم بعيدا عن دوره التحليلي، وبعيدا عن مغزاه،كشكل من اشكال التحضير الاجتماعي. لهذا اهمل النقد أخطر ظاهرة في الرسم العربي الحديث، اي بروز التيارات الزخرفية، والتشكيلية المفرغةمن دلالة المعنى، وازدهار الفنون- الاساليب- التزيينية.. فلم يفهم الفن، اجتماعيا، الاكاستكمال لأثاث البيت. لهذا كان النحت اكثر اهمية في دوره الابداعي، منذ محود مختار وجواد سليم: حيث كان النحت اكثر صلة بالحركة الاجتماعية.. وكانت تقنياته هي التي تتحكم بالذوق العام، على العكس من الرسم، الذي راح، في الغالب، يلبي رغبات الذوق السائد من هنا تبرز ظاهرة انحسار الاهتمام بدراسة التقنيات، من الداخل، اي في حدود العمل الفني ذاته. ولكي نوضح ذلك، لابد من تفحص الكم الفني على حساب الاساليب الاصلية، فالنقد او فن المفارقة، داخل اللوحة، كتقنية او مهارة توازي مضمون المفارقة داخل العمل الفني اصلا، لم تجد جذبا خاصا يوازيها، وعلى كل فان بروز عدد من التجارب في رسمنا المعاصر، سيولد حقيقة إن الجيل الجديد، ستكون له اهمية غير محدودة في فهم دور الفن اللاتزيني. فالصدمة التي تولدها هذه التجارب، تكمن في اصالة فهم النقد او الفهم الاخر للتقنية. فالسخرية- أو الخيال الساحر- أو التمرد النقدي بالفرشاة والاستعمال الحر لدرجة القسوة في المعالجات اللونية والحرفية او مابعد الحرفية، كلها، تنزع للتعبير عن قلق مشروع تكمن جذوره في التعبيرية، منذ غويا مرورا بدوميه وفان كوخ والتعبيرية الالمانية. انما يضاف لهذا، أن فن السخرية- التقنية، ياتي كرد فعل للأساليب الشعبية، والرسمية، والتقليدية(1).
ولست هنا بصدد نقد تيارات فنية كرس الطبيعة والموضوعات الفوتغرافية، لسبب وحيد يجعلني 
أرى اننا مازلنا نبحث عن قاعدة عامة للرسم- وللفن عامة- بعيدا عن عدد من القناعات الراسخة بما توصل إليه الرسام العراقي، على صعيد المضامين او الاساليب. في الواقع اننا بحاجة الى مراجعة نقدية لاتخلو من المغامرة، على ان هذا لامناص يمثل المفارقة ذاتها، وسط تيارات ريفية تخلو من العمق والرؤية والحرفية أيضا، فالاستاذ فايق حسن ذكر في اكثر من مرة، بصيغة سؤال: أين هو النقد الفني.. وماذا يعمل النقاد؟ ان فايق حسن، كجواد سليم، يفهم النقد، كخلاصة وعي بالمنجز الجمالي، والاسلوبي، وفي واقع الامر ان النقد، كشكل حضاري، لايتحقق كتابع للتجارب الفنية، او كتحصيل حاصل، انما هو وعي يتمثل البنية الثقافية برمتها، فصناعة العمل الفني تكاد تماثل عمل الطبيعة.. انما من يفهم ذلك، بما يوازي عمل الطبيعة السحري؟ ان الفن وحده كنقد داخلي أو خالص، يتضمن السحر، لانه يتضمن مقتربات ن الكون، ومن الذات اللا محدودة للفنان بوصفه يمتلك اشكالية ازلية، او توازنا غير مرئي للتضادات على صعيد العالم، او عبر ابداعه الجمالي.
مرحلة التمهيد:
يكتب الفنان نوري الراوي ((حينما كانت بغداد تعيش في ظل بني عثمان، لم يكن من يعرف انبوب الدهان، بل ولا حتى الاقلام الملونة التي يلهو بها اطفال مدارسها اليوم))(2) فان ملاحظة الفنان نزار سليم التالية ((ويعود الفضل في بداية الحركة التشكيلية، في اوائل القرن، الى عدد من الرسامين الهواة، اشهرهم عبد القادر الرسام الذي كان ضابطا في الجيش العثماني وزملاؤه الحاج محد سليم، ومحمد صالح زكي، وعاصم حافظ(3). توكد ما ذهب إليه الفنان شاكر حسن ال سعيد بقوله: ((وهكذا فان التطور الحديث في الفنون الثقافية في العراق، ومنها فن الرسم لم يسنح الا بعد تبلور القيم الجمالية للفكر العالمي فيه..))(4).
فالاستعمار- على حد قوله- بشقيه الاسيوي والاوربي- 1258- 1958 كان مدمرا للحضارة في العراق. وقبل ان نتوقف عند منتصف هذا القرن، نستخلص ملاحظة اساسية: ان مرحلة التمهيد لم تتح لهؤلاء الاوائل اية امكانات اسلوبية عدا محاكاة الطبيعة وتصوير الحياة الجامدة والموضوعات الاجتماعية التقليدية. فاستعمال التقنية توازي الذوق العام.. وبالتالي فالموضوعات- أو وعي الفنان- لايمتلك الا الاسلوب الوثائقي: عبد القادر الرسام يصور مشاهد دجلة في بغداد.. ومحمد صالح زكي يصور الشخصيات بأسلوب اكاديمي.. ومحمد سليم، كابناء جيله، ينسحب الى التقاليد الاوربية، بينما كانت اعمال قاسم ناجي اكثر جرأة بفعل دراسته في اكاديمية برلين عام(1938) ولندن (1939) انما كانت تمثل بدايات وسط مرحلة مازالت بعيدة عن المناخ الفني، الذي سيتبلور بعد النصف الاول من هذا القرن.
ولعل أول معرض للأعمال الفنية قد اقيم ضمن المعرض الصناعي الزراعي عام(1931) يوضح بواكير فكرة(الحوار) بمعناه المحدود، للفن الأوربي الأكاديمي، بل سنلاحظ ان فنانينا، بعد منتصف القرن، سيعودون الى بغداد، وكانهم لم يتعرفوا على التجارب الاكثر حداثة.. وهذه ملاحظة تفسر ان الفنانين قد تمسكوا باكثر التقاليد قبولا للذوق العام.فحتى فايق حسن سيتجلى عن تجاربه التجريدية في الستينات، باعتبارها غير اصلية، على حد قوله، اذن، نستنتج من هذه المرحلة، وحتى تاسيس جماعة الرواد، محاولات التقليد للفنون الأوربية، ومحاكاة المرئيات والاشياء. فالفنان ينفذ رسوماته حسب وعيه الاجتماعي لاحسب وعيه الانتقادي. فلم تظهر(تمردات) اسلوبية الافي لوحات نادرة أشهرها لوحة اكرم شكري (حواء) ولوحة قاسم ناجي(موضوع رمزي). عند اكرم شكري حرية فرشاة متمردة تعبر عن وحدة موضوعية ذات وعي فني متقدم: فهو يتمرد على الاساليب السائدة. والمفارقة في هذه اللوحة ان (حواء) التي تمسك بالافعى تعكس تمرد الفنان الاسلوبي ومغامرته اللونية مقارنة بالتجارب السائدة حينئذ. عند قاسم ناجي خيال يتشكل بقسوة الاشكال الهندسية، وحدة الالوان (الاحمر تجاه الازرق) وعلى الرغم من موضوع اللوحة الرمزي، كما أطلق عليه الفنان، فان البعد النقدي يكمن في استعمال الاشكال للنار والكهوف والبحر، وهي تأويلات لتقنية اللوحة، وليس تفسيرا لها.
ان هذه المرحلة التاريخية، ستجد صداها، في تجارب اكثر وعيا للعمل الفني، من الداخل. انها مرحلة الخمسينيات(5).
الخسينات:
ثمة علاقة للخيال والاسلوب، كما للثقافة، والوعي، والخبرة. يكتب جبرا ابراهيم جبرا عن جواد سليم، بعد ان اشر دوره الريادي المتميز ((فقد جمع بين الموهبة الفطرية والمعرفة الجادة، بين الحس التاريخي والنظرة المتفتحة، جامعا في تاملاته واعماله بين منحوتات سومر واشور، يحيى الواسطي والنحاسيات العباسية، وشتى نظريات الفن الحديث، حتى اكتسب اسمه بين المثقفين في العراق هالة أسطورية))(6). ان هذه الهالة قد جاءت بفعل الوعي النقدي عند جواد سليم، يضاف لها، ان سخريات الفنان، قد عالجها بروح ساخرة. فالشجرة القتيلة قد ترمز لانكسارات الانسان، انما رسمها الفنان في يوم الشجرة للتعبير عن قلع الاشجار في هذا اليوم الاحتفالي.. لكننا في الحالتيين ازاء اشكال حادة. ثمة نزعة تكعبية، وتعبيرية، ورمزية، تكمن في الخطوط، والتقنية، لا في الموضوع. وستلاحظ عند جواد سليم، اكثر من سواه، تكرار الاستعمالات الحرة للفرشاة، واستخدام الالوان القليلة، كما عند محمود صبري، للتعبير عن موضوعات محددة وغير محددة. بمعنى انه يحرر الموضوع بالاسلوب نحو ذاكرة جديدة. ومع اننا لانتعرف على موضوعات ميتافيزيقية عنده، الا ان مهارته كمخطط، يحرر الخيال الواقعي من جدرانه. لقد كان أسلوبه يصدم المشاهدين.. فهو كان يبحث عن (المثل) بالفن.. اي عن الصدق الفني. يقول ((اننا ونحن بسبيل الحديث عن الفن العراقي، تمر باذهاننا تلك الفكرة القائلة بخلق مدرسة عراقية للفن الحديث. ان هذا الموضوع صعب وشانك في الحقيقة، لان تمثل انعكاس كل وجوه الحياة في الاعمال الفنية الناجزة: المحيط، والصراع الدائر فيه.. النشوة البطولية.. وماثر التاريخ القومي.. الفرح والامل.. كل ما يحيط بحياة الانسان من تجارب شعورية لاتقع تحت حصر. وهذا لن يتسنى لنا خلقه في زمن قصير، كما في امكاننا تحديد مداه الان))(7). 
فهو، اذن، يبحث عن خصوصية الاشكال، انطلاقا من كونه امتلك ثقافة وحساسية وخبرة نادره، كلها جعلت اعمالها تمتلك بعدها النقدي.. 
ومثل هذا الاحساس، سيفصح عنه محمود صبري في عظم لوحاته(8). فتاثيرات التعبيرية الالمانية، والواقعية الاشتراكية، فضلا عن هيمنة بيكاسو انذاك، كلها دفعته الى تحطيم الشكل: انه تحطيم تعبيري خالص. والمفارقة عنده تكمن في اختيار أسلوب متفرد تجاه شاعرية فايق حسن ومهارة خالد الجادر وعذوبة لوحات اسماعيل الشيخلي وتقليدية عطا صبري. فهويتخذ من الواقع المرئي موضوعاته: ثورة الجزائر.. في الانتظار.. عمال البناء.. مثلا.. ففي هذه الاعمال سخرية بلغت درجة استغنائه عن التلوين التزويقي. فالأسود والأبيض يتداخلان للتعبير عن حركية اللوحة. فليس ثمة سكون، كما في لوحات شاكر حسن الخمسينية كلوحة الوثبة او لوحاتة عن القرية. والحركة، داخل، توشر مغزى المضمون الانتقادي. فهو لا يحتفل بالاشياء، كما في لوحات حافظ الدروبي، انه يصدمنا بقسوة الواقع من خلال قسوة المعالجة. وستبقى لوحاته موضوعية على رغم تفردها الذاتي. انها ليست مفارقة على أية حال، بل هي سخرية اسلوبيةرمزية المغزى. فالفنان، برهافة حسه، امسك البعد الانساني، لهذا كانت المعالجة الحادة في (في الانتظار) تلخص واقع المرأة مثلا. أن هذا الموضوع المباشر عالجه الفنان بحرية اسلوبية تذكرنا بالتعبيرية الفرنسية ايضا. فالاسلوب هو الذي ينطق بعيدا عن المعنى. واذا لم نجد هذا التقسيم فان الفنان لم يتخل عن وحدة الخطاب الجمالي. فهو هنا يصور الجمال المر: انتهاك جسد المراة مثلما هو تدمير للاشكال. لكن الفن عنده هو اسلوب رؤية لم يتخل الفنان عنها الا عندما اختار (واقعية الكم) للتعبير عن تجربة مختلفة(9).
في هذه السنوات رسم طارق مظلوم باسلوب بدائي وحر ورصين افضل اعماله. رسم الحاضر كأنه صور نقشت فوق جدران الكهوف. ان هذه المفارقة لاتخلو من سخرية، بالمعنى على الأقل، فالأسلوب عنده يمتلك تفرده بين الرسامين العراقيين. وهذا التفرد، بحد ذاته، يشكل موفقا انتقاديا للاساليب الانطباعية والتقليدية او للمحاولات ذات النزعة الشعبية السياحية(10). ان مفارقته- وسخريته- تكمن في استحضار الماضي.. وحريته بالرسم توضح سايكلوجيته بالاستعمال التعبيري للألوان، والتنقيط، والخطوط الملتوية..
على إن هناك تجارب تستحق التذكير، منها لوحة (الوثبة) كتجربة تعبيرية- رمزية. لكن التعمق فيها يوضح مدى تفهم شاكر حسن لمغزى الاخلاص الاسلوبي للعمل من الداخل- فهذه اللوحة مازالت تكتسب أهميتها بتقنيتها ويتفهم الفنان لعلاقة الفن العراقي بالفن المعاصر. تلك العلاقة التي منحت هذه اللوحة تمردها،- كتجربة بنيوية، او انها تمثل (ظاهرة) المعنى، من خلال البناء المتداخل للإشكال، وعبر التكرار، والتقييد الواعي في استعمال الالوان، ذات الجذر الفلكلوري..
وفي لوحة (سوق قديم) لفاضل عباس تكمن فكرة (فرويد) عن التلطيخ. انها فكرة جسدها(نولده) مثلا. وهي فكرة، على مداها العميق، تمثل سخرية الاسلوب ن الداخل. فليس الموضوع هو الاساس، بل التنفيذ. وقد نجح فاضل عباس برسم لوحة فذة لاحد اسواق بغداد وكانها عبارة عن صراع الوان..
وفي عدد من لوحات رسول علوان، ومنها لوحته (امراتان) تظهر تعبيريته المباشرة: حدة الألوان.. ومنح الكتلة رمزية الخط.. وهو الذي نراه في معظم لوحاته مثل (برج بابل) و (الزقورة الزرقاء)، اي هذا الإحساس بحركة من الحاضر نحو الماضي.. او من الماضي نحو المستقبل. وفي لوحته (المحنة)، كما في عدد من لوحات نزار سليم والشيخلي، وخالد الجادر، تظهر المهارة الاسلوبية، وكان الموضوع قد ابعد. 
وعلى كل حال فان الاحساسات المريرة بالواقع الخمسيني، والتصادم بين الوعي الوطني ازاء الاحتلال والاغتراب، دفع بهؤلاء، وفي لوحات محددة، لبلورة البعد الانتقادي. الا ان هذا البعد جاء بفعل المعالجة، ومن خلال الاسلوب. فالحرية التي تبلغ درجة العبث، متوازنة، اجمالا، مع الخيال الخصب للمعنى الفني: ان مايثير السخرية يحيلنا الى العمق، انسانيا وفنيا. ومثل هذا الاخلاص للفن، امتلك شرطه الثقافي، وتقاليده الفنية- الاجتماعية. وهو الذي منح المرحلة التالية (1958-1968) وما بعدها، تجارب أكثر تفهما لمغزى البعد الانتقادي، وابعدها، تجارب اكثر تفهما لمغزى البعد الانتقادي، من خلال الاسلوب، وككشف عن ملكة الخيال عبر الرؤية التقنية، والخبرة، تجاه اساليب مازالت أسيرة الوعي التقليدي، واسيرة محاكاة البصريات(11). 
الستينيون:
ثمة اتفاق مقنع: ان الاسماء البارزة هي التي شكلت حقيقة الفن التشكيلي في العراق، وليس المناخ هو الذي مهد لتلك الاسماء بالبروز. فالحلقات المتطورة، لم تحصل دفعة واحدة، فمنذ بداية القرن حتى بداية السبعينيات، مر التشكيل، بمراحل عدة، كانت قائمة على تراكم الخبرة، والبحث عن مناخ فني اكثر بالواقع.
وجاء العقد الستيني، باحداثه الدولية، والعربية، والمحلية، ليفجر اسئلة جديدة كالتي تبلورت في بيانات فنية، او عبر تجارب فردية، حاولت تخليص الفن من الواقع الاجتماعي.
ولم تكن البيات الفنية: ((الرؤيا الجديدة))(12) ((البيان التاملي))(13) و((المجددون)) الا انعكاسا لرؤيتهم العملية ذاتها. فحالة التمرد، وتخليص الفن من الجمود، والشكلية، والمحاكاة، والموضوعات التقليدية،كلها دفعتهم نحو العمل الفني واستيعاب شروطه كحقيقة مستقلة: وكوحدة متماسكة من الداخل. فهاجس الصدق الفني، دفعهم الى التمرد على المالوف العادي. ولاننسى ان أعظمهم كانوا قد عادوا توا من الخارج.. بل سنلاحظ ان اساليبهم ذاتها، كل حسب وعيه وموهبته، تختلف بعضها عن بعضها الاخر. لكن بالامكان تلمس الدافع غير المنظور الكامن في روح التحدي، والبحث عن شكل أخر للفن. حتى أن فايق حسن ذاته سيقوم بتجارب متطرفة كالتجريد والتلصيق. وعلى اية حال فان وجود اسماء ذات تطور وخبرة فنية وحماسة للعمل الفني دفعت بظاهرة النقد؛ النقد من داخل العمل أوبه؛ شوطا اكبرمما ظهر في المراحل السابقة. كما ان سؤال: مالفن؟ دفعهم لاستيعاب او ادراك المعطيات المتباينة للتجربة الفنية. فالحداثة غدت تواجه هؤلاء الرسامين بالبحث عن تقنيات توازي الوعي الاجتماعي والحالة السيكولوجية التي ظهرت عقب احداث ذلك العقد: ثوررة 1958.. ثورة 1963 رمضان.. نكسة حزيران 1967.. كما ان التيارات الاوربية في الشعر والقصة والمسرح كانت قد نشطت في الاتجاه النقدي ذاته.
ولنتوقف عن تجارب بارزة تمثل هذا المنحى النقدي. ففي اواسط الستينات قدم اسماعيل فتاح الترك تجربة غريبة بالرسم، وقد اثارت السخط، حتى ان الجمهور استقبلها على نحو غير لائق:
قدم الفنان الجسد البشري (العجز والتشويه والاستلاب) كمنحة وجود. ان الترك يتحدث عن الموت والحب (الجنس) كمتناقضين، وهي حقيقة تكلم عليها جواد سليم عندما قال باستحالة انسجام الموت مع الفن. لكن الترك راح يفسر الحياة بالفن، وابعد فابعد فانه جعل الاسلوب الفني مغامرته الصارخة. فالجسد الابيض، مع الوان رمادية وزرقاء ووردية مغبرة تفسر مغزى تمرده ضد الواقع وضد الاساليب، الفنية السائده آنذاك. انه أراد ينقل اللوحة الى مجال فني خالص. فالذي يحدثنا- تقنيا- داخل اللوحة، هو مثال محور للذي يحدث في الخارج. انما التقاليد التي تعلمها الفنان، في ايطاليا، منحته قدرة أعلى باستيعاب مبدا السخرية او المفارقة عبر علاقات او مكونات اللوحة. فهو يكاد ((يلهو)) او ((يلعب)) بمرارة ليعبر عن اغترابه الوجودي او الانساني.. فالذات عنده قد استقلت، لكنها لم تفلت من قبضة الخارج: هكذا سيرسم الصراع وكانه محض ((عراك)) خطوط والوان وكتل، في خلاصتها، تجذر بعدها الانتقادي او تؤشر حقائق ذلك الوجود. فالاشكال الكاريكاتيرية- وهي ليست كذلك- تفصح عن ذروة ألازمة، ومن ناحية أعمق تمنح الأسلوب مداه الأبعد.
ومثل هذه النتيجة سيتوصل كاظم حيدر إليها، ولكن بوعي انتقادي أكثر استقرارا(14). ففي ملحمة الشهيد، يظهر الأسلوب ألانتقادي، على مستوى التاريخ، لكن الفنان، إبان مرضه (1982) سيرسم بسخرية مريرة قدره إمام الموت. انه يسخر من أشياء كانت تبدو راسخة. 
فالجسد تحول إلى مجموعة أنابيب، واسطوانات. إن كاظم حيدر، لم يكرر لوحاته، إنما كان على إن أزمن لا يسمح له بالنمو التدريجي للأسلوب. لهذا راح يعبر عن رؤيته بأكثر من أسلوب، وبأكثر من رؤية. وبهذا البحث لخص مفهومه ألانتقادي للفن. وفكرة المفارقة عنده، وان كانت ذات صلة بالمسرح، إلا أنها توضح بان الأسلوب الفني يمتلك قدرة تصوير المتناقضات: رسم مجموعة من الدمى، أو الساعات العاطلة، إلى جانب لوحات واقعية. فهو كان يدك مقدار التناقض، لا في الفن، أوفي وعي الفنان، بل في الواقع الكوني أصلا، إنما أراد إن يلخص أفكاره، وبثقة، من خلال الأسلوب.
فنان أخر منح التقنية أقصى إبعادها، هو صالح الجمعي، فقد أخلص هذا الفنان لمفهوم الحداثة، بشكل خلص فيه العمل الفني من التشخيص ومن الغنائية الرومانسية. فاستعمالاته للمواد المختلفة، ضرب من الوعي بالفن جاء يماثل الشعر وتجارب الكتابة الراديكالية. وتجاربه في هذا المنحى، لا تختلف كثيرا عن تجارب إبراهيم زاير وسالم الدباغ. فالتمرد نحو الشكل التجريدي، محاولة لتخليص المعنى ودفعه نحو الرمز المستقل.
لكن الفنان محمد مهر الدين، سيتفرد بفهم أعمق للبعد ألانتقادي فالوعي عنده يشترك بين وعي الفنان وبين ما تتضمنه التجربة الفنية. فليس ثمة فواصل. على إن هذا التشخيص، ليس دقيقا دائما. فنحن ألان، وبعد ربع قرن، نمتلك تأويلاتنا لرسوماته الهندسية، التعبيرية، والرمزية. فقد كان اهتمامه بإخراج العمل الفني، يلخصان قدرة اللوحة على إعطاء معنى أخر لم يقصد الفنان قط. فالاغتراب عنده هو إشكالية وجود، وعلى الرغم من تشبيه بالمكان فان الزمن يشكل مجموعة الصدمات والمناخ الخصب لميلاد اسئلة مولدة للاسئلة. فانسان الفنان هو وليس وليد عصر شانك ومعقد. وثقافة الفنان وخبرته الطويلة وحساسيته اللونية كانها جعلته يمنح اللوحة الفنية كثافة معنى غير قابلة للتفسير المباشر. هنا تكمن المفارقة في تجاربه كلها: ومفارقة انه رسم بالوعي انما نقلنا الى وعي ابعد: انه مسمى الفن ذاته. فالحرية الداخلية عنده تحولت الى صدمة في الخارج، ومن الخارج إلى الوعي إلى اللوحة، تنتقل الذاكرة لاالعين.
وعلي طالب، يمارس مهارة اللعب: اللعب المر. فالاسلوب كله ساخر، اسود وتعبيري لدرجة الكابة. وموضوع الاسى العميق، اغتراب العاشق في عالمنا، هو ضرب من الاحباط الاجتماعي، والسيكولوجي. ان اسلوبه هو حصيلة انتقاداته للاساليب السائدة. وعلى الرغم من اننا في هذا الجيل، نجد مزيدا من التاثيرات يالتجارب الاوربية المعاصرة، الا ان الاسلوب، عند علي طالب او ارداش كاكافيان، يظهر قدرة تذمر راديكالية ازاء سكونية الاشياء.. هذا التذمر، الاخلاقي، يتلخص بتعبييرية- رمزية متحدة: تارة صوفية.. وتارة نقدية لدرجة الافصاح عن هول القبح في عالمنا. فالفضاء لا يرحم الجسد.. كما ان الفن سيدمر التجارب التقليدية. ومثل هذا التشخيص سيعثر عنه د. علاء حسين بشير، ولكن بروح فكهة من خلال السرد. فهو لا يرسم.. انه يتكلم. وفي كلامه بعض دلالات البعد الانتقادي: فانسانه معزول، معزى، كالذي اختار موته كقدر، انه يرسم بكل وسائل الشرح، مثل المخرج السينمائي: انه يوضح. ولهذا فاسلوب جذاب، ومفهوم على مختلف المستويات. انما ثمة فكاهة ليست عذبة، مبتذلة، كامنة في اسلوبه: هذا التعارض بين السطح والجوهر، الذي يدعوه الفنان بالواقعي والحقيقي. ومثل هذه المفارقة بمثابة مغامرة الانسان ازاء اللا محدود، والفن ازاء الابتذال.
ولا أغفل تجربة راكان دبدوب، فالاسلوب التكويني، عنده، يكاد يجسد فكرته الكلية عن الفن. بعنى ان الاجزاء- اللوحات والتفاصيل داخلها- تمثل ذاتها لتعبير عن الكل. فهو انتقادي النزعة، كما في عدد ن لوحات سعد الطائي ذات الرؤية الساخرة، بالاسلوب والضمون معا.
اننا اجمالا نجد ثمة قضايا مازالت قيد البحث.. وبالامكان تسمية هذه الظاهرة بالتجريبية. فاعتماد الفنان الانتقاد، بالاسلوب، وبلوغه درجة المفارقة- والسخرية الاسلوبية احيانا- يؤشر مقدار وعيه لمعنى مفهوم اللوحة المستقلة او القائمة على مكوناتها وذاتها. فاللوحة ليست تلك المراة العاكسة للمجتمع. انها ربما هي المناخ، او البناء بذاته، والفنان في هذا الاجراء، يعمق ذاتيته بالتخلي عن المالوف او عن الانجاز التقليدي. فهو قد يصارع نفسه، بل يصارعها دائما للخروج من مازق مفهوم ((الجمال)) السكوني. وسأتوقف، اخيرا، عند هذا البعد(15).
1970-1990.
ثمة تجارب ظهرت على نحو متغرق، بين عامي 1970- 1990..وكان العقد الأخير، إبان سنوات الحرب، قد شهد ظاهرة بروز التعبيرية كمفهوم لوحدة المضون بالاسلوب. ومن الطبيعي مازالت تصارع الذوق الذي تغذي بالاعمال الانطباعية والواقعية والشعبية والزخرفية... فالشكوك لدى هذا الجيل، او الاسئلة، تجد اجاباتها بالانحياز الى العمل الفني كرد فعل ازاءالخارج، من ناحية، وكاخلاص عميق للتقاليد الفنية التي ارساها الاوائل والرواد، من ناحية ثانية.لكن يضاف لهذا، كامتياز لهذا، كامتياز لهذا الجيل- الجديد- انه اكثر افصاحا عن قلقه الداخلي، فهو لايرس لذوق منجز: انه يبحث عن مغامرة جمالية على الضد من تلك التي ظهرت في لوحات ضياء العزاوي اوخالد النائب مثلا. فالجمال لا يتشكل بالثوابت، انه رصيد أمين للإضافات المتحركة. لكن هذا لايلغي مفهوم الاسلوب النقدي، الواعي لذاته، وانما يعمق فهوم دور الفن كبحث عن اصالة الروح، او كبحث عن ((روح)) توازي عصرنا برمته. فالمفارقة بين رؤية منغلقة واخرى تلامس جوهر المتغيرات.. والمفارقة بين حذر عابر ومغامرة مريرة وشيطانية- حسب غردات بودلير- والمفارقة بين وعي احادي، منحط، تراجعي، ووعي حر، ديالكتيكي، شمولي النزعة.. والمفارقة بين الاحتفال بالظاهر، الشكل، السطح، او البعد الواحد، والبحث الدائم عن جوهر، عمق لكل تقنية، ومحرك لكل سطح، وبعد اخر محرك لذاته وللاشكال كلها تكمن، في هذا كله، المفارقة التي توقفنا عندها في الرسم العراقي، منذ هواة الرسم، حتى الجيل الاخير، الذي نؤشر امتيازه بالظاهرة العامة، أكثر مما هي، في الافراد. وهذه لحة او انتباهة جد مهمة. فالاسماء التي ظهرت خلال العقد الاخير، توفر لديها المناخ الثقافي، بدرجة لا تقارن مع المناخ الستيني او الخمسيني. فالانفتاح على العالم، والازمان الاجتماعية، والانسانية ومنها الحرب، ومنها المتغيرات في المفاهيم اصلا، كلها ولدت قاعدة لاسئلة جمالية مازالت قيد المناقشة.
من رسامي هذا الجيل، في سبيل المثال لاالحصر، هاشم حنون، هادي نفل، محمد صبري، كريم رسن، خالد رحيم، عبد الكريم سيفو، سعدي داود، علي جبار، كامل الموسوي، حسن عبود، فاخر محمد، حسام عبد المحسن، عاصم عبد الامير، عبد الرزاق ياسر، محمد تعبان، حيدر خالد، ماهر حربي، مصطفى نور الدين، غازي الدليمي وعبد الصاحب الركابي وغيرهم..
ان ذكر هذا العدد، مقارنة بالمراحل السابقة، له اسبابه: 
أولا: ثمة تغيرات في مفهوم الفن، واللوحة، ككيان عضوي له معالجاته، وابعاده: كيان لا يحاكي المرئيات وان يتوغل داخلها، الامر الذي جعل ابناء هذا الجيل اكثر صلة بالثقافة العامة والفنية من جهة، واكثر تفهما لدور الفن في المجتمع، من جهة ثانية.
ثانيا: ان الاساليب التقليدية، لم تعد ممكنة ازاء حداثة في الثقافة الرائدة، في الشعر او على صعيد تجارب القصة القصيرة، والوعي العام، الامر الذي جذب هذا العدد، ومنحهم فرصة اعمق مما كانت عليه، في المراحل السابقة.
ثالثا: لا أحد يقدر، او يدرك، كم من هذه المواهب، ستطور رؤيتها بهذا الاسلوب التعبيري- النقدي، الباحث عن ذاته، تقنيا، واسلوبيا، لكي تحافظ على المفهوم النقدي عبر الفن، لاعبر وسائل- خطابية- اخرى. فعندما ذكرنا من الخمسينيات او الستينات، العدد المحدود من الاسماء الرائدة، فانما حصل هذا بسبب تمسك تلك المواهب برؤيتها. كذلك فاننا لم نذكر الا من غلبت عليه نزعة النقد، التي تبلغ ذروتها بالمفارقة او بالمهارة التي تمنح الفنان قدرة الاستبصار لفنه ودوره، لاكوثائق او شهادات، وانما كفن يمتلك شروط الابداعية.
وهذا كله لايتعارض مع ظهور نزعات مماثلة او اكثر راديكالية خاصة اننا نبحث عن فنان- ناقد- لا عن فنانين موهومين، او لاعلاقة لهم بروح الفن. فقد لايبقى من الاسماء الاخيرة الا عدد محدود، وقد تضاف لهم مواهب اخرى. ليست هذه مشكلة. فعندما سيطالب الناقد بمهمة كهذه، فعليه ان يكف ويغادر مسماه. انما المشكلة تكمن في مغامرة هذا الجيل، وفي هذا الاتجاه من الفن. فالاساليب الحديثة تسعى الى ((الصدمة)) والى اجراء نظام اخر للرؤية. ان العالم، منذ غدا الزمن مشكلة: اي مشكلة المتغيرات والحركة والمستقبلية، لايتعامل مع الثوابت الا بالحذر. فلماذا- مثلا- في رصدنا لهذه الاساليب، وجدنا هذا الاجراء المؤلم لمعالجة: التشويه الحاد، والتقطيع، وابدال الاجراء، ونسف قواعد الرسم، ومنح الحلم طاقة اعلى واكثر استفزازا لسكونية المرئيات وجماليات الاشياء الثابته، والتوغل داخل النفس، لا بحثا عن الاستقرار، وانما للعثور على بؤر ابعد لشفافية الروح؟ واسئلة اكثر مراراة: لماذا ثمة بحث عن السخرية بالاسلوب والمعالجة.. سخرية سوداء، قائمة على مفارقات اجتماعية، ومن ثم، على اسس تقنية وتكنيكية في حدود اللوحة؟ 


(1) ((روائع التعبيرية الالمانية))- هورست اوهر، ت: فخري خليل، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1989، المقدمة.
(2) ((تاملات في الفن العراقي الحديث))، نوري الراوي، مديرية الفنون والثقافة الشعبية
بوزارة الارشاد، بغداد، 1962، ص 4 وما بعدها.
(3) ((الفن العراقي المعاصر))، نزار سليم، وزارة الاعلام العراقية، 1977، ص7.
(4) ((فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق))، ج1، شاكر حسن ال سعيد، دائرة الشؤون الثقافية والنشر، 1983، بغداد، ص8، وما بعدها.
(5) ((الفن المعاصر في العراق))، جبرا ابراهيم جبرا، وزارة الثقافة والاعلام، بغداد، بلا تاريخ، ص5، 6، 7.
(6) المصدر نفسه، ص3.
(7) تاملات في الفن العراقي الحديث، ص38.
(8) المصدر نفسه، ص22.
(9) انظر ((رواد الفن الحديث في البلاد العربية))، د، عفيف بهنسي، دار الرائد العربي، بيروت، لبنان، 1985، ص131.
(10) ليس ثمة مثل هذا المصطلح ((الفن السياحي)) ولكن د. طارق مظلوم، بدافع السخرية تحدث عن الفنون او التجارب المنفذة للسائحين، اي على العكس من أصالة الفن الشعبي النابض بحياة الشعب.
(11) ((الفن التشكيلي المعاصر في العراق))، مرحلة الستينات، عادل كامل، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد. تنظر الفصول الخاصة بالفنانين المذكورين.
(12) ((نحو الرؤيا))، بيان موقع من قبل: هاشم سمرجي، محمد مهر الدين، رافع الناصري،
ضياء العزاوي، صالح الجميعي، اسماعيل فتاح الترك، بغداد، تشرين الاول، 1969، مطبعة رمزي.
(13) ((البيان التاملي))، شاكر حسن، ملحق جريدة الجمهورية، 23/6/1966.
(14) ((الفن العراقي العاصر في العراق))، مصدر سابق، ص223.
(15) بالامكان ذكر اسماء اخرى، تمثل هذا المنحى، في جانب ن جوانبه: مثل: اسماعيل خياط، فايق حسن، سامي حقي.
ـــــ
ملاحظة :- / المصدر /
فصل من كتاب / التشكيل العراقي التاسيس والتنوع / عادل كامل / الطبعة الاولى - بغداد
شارك :

4 comments:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *